top of page

                                     علم الصحة التطوري

مقدمة

بات تطور الأنواع  ليس نظرية بل قانون أساس لعلم الأحياء والطب المعاصرين بما في ذلك الكثير من الأبحاث التي تؤثر على حياتنا و وجباتنا اليومية . يظهر ذلك في الفرضيات التطورية الحديثة حيث تتناقض بشكل صارخ مع المعلومات الراسخة مثلا حول السكروز ، الفركتوز ، المشروبات الغازية وكذلك حول الدهون والكولسترول . وهي مناقضات جوهرية قد تؤدي إلى تجارب جديدة تنذر بسقوط العقيدة الطبية القديمة حول الأمراض والوقاية منها وعلاجها . ولأن الانتقاء الجيني والتكيف هو محور تطور الأنواع ، يجب أن اعتبار أن أهم المؤثرات هو التفاعل مع الأبعاد الغذائية من حيث مصدر الغذاء ونوعية تركيبه . ذلك لأن التشكيل الجيني التطوري للأجسام يحدث تبعا للانتقاء الطبيعي الذي يميل إلى زيادة الأفراد الذين يعيشون ويتكاثرون بشكل أفضل من غيرهم لأنهم أكثر تكيفًا مع بيئاتهم بشكل انتقائي.

العلم الصحي والطبي التطوري مجال جديد نسبيًا متعدد التخصصات يجمع بين الأطباء وعلماء التغذية والأحياء وغيرهم ويتمتع بقدرات استكشافية وتساؤلات اصيلة عن المشكلات الصحية التي تواجه الإنسان الحديث. المفهوم الأساسي للعلم التطوري هو أن "الطب مثلا " يحتاج إلى التطور لأنه لا شيء في الطب له معنى إلا في ضوء التطور ، وهو بذلك يحل محل المرادف السابق" الطب الدارويني " الذي كان مفضلًا سابقًا . كما انه بفضل قدرة العلم الصحي التطوري في الكشف عن مجريات الأمور وقدرته التفسيرية ، يمكن للتفكير التطوري في القضايا الصحية  إلقاء الضوء على سمات غير متوقعة عبر المناهج غير التطورية مثل طرح مبدأ أن وجبات الأسلاف تمثل التغذية التي يكون البشر فيها مبرمجًا وراثيًا .

النظام الغذائي البشري تطوريا ليسر ابداعات منفصلة وانما لديهم تاريخ تطوري عريق مسئول عن تشكيل متطلباتهم الغذائية وعلم وظائف اجسادهم والمحافظة عليها وراثيًا . ولكن من الناحية الجينية يعيش البشر اليوم في بيئة غذائية تختلف عن تلك التي تم اختيار تكوينهم الجيني على اساسها ، فالبشر الذين يعيشون اليوم هم مطابقون وراثيا للصيادون والقطافون في العصر الحجري الذين تم تلبية متطلباتهم الغذائية حصريًا من خلال الخضروات غير المزروعة والطرائد البرية . وقد خلصت مراجعة منهجية حديثة بالتحليل التطوري إلى أن النظام الغذائي للعصر الحجري أدى إلى تحسينات في مكونات متلازمة التمثيل الغذائي أكثر من الأنظمة الغذائية الحديثة القائمة على التوجيهات. ويمكن بيان ذلك من خلال امثلة عملية سائدة .

حول السكر مثلا في التحليل التطوري ، النتائج المتضاربة حول تأثير استهلاك السكروز على  معدل السكر وفرط الأنسولين ونسبة الدهون الثلاثية والكولسترول في الدم ادت الى جدل واسع . من هنا أتى التحليل التطوري ليعارض الدارج العلمي في مبدأين يصمان السكر بالسلبية. الأول الإدعاء المترسخ بأن التأثيرات الأيضية للسكر تعتمد على الكمية التي يتم تناولها بغض النظر عن شكل المتناول ( form of ingestion ). اذ يؤكد التوجه البحثي التطوري أن السكر المركز ضار لأنه غير موجود في الطبيعة بينما السكر المخفف غير ضار لأنه أكثر الكربوهيدرات وفرة في الفاكهة الطازجة والتي كانت الغذاء الرئيسي لأسلافنا في عصور ما قبل التاريخ لعشرات الملايين من السنين . حيث شكلت الفاكهة وراثيًا فسيولوجية تمثيلهم الغذائي بفضل الصفات الفسيولوجية المحفوظة تطوريًا والمتكيفة مع الفاكهة الطازجة. ولهذا تم اثبات ان امتصاص السكر المخفف خطيًا ، أي بطيء وثابت السعرات الحرارية ضمن نطاق السعرات للفاكهة ولكن فوق هذا النطاق يكون امتصاص السكر المركز خط متسارع بأثر ضار. والحدود الفاصلة بين المخفف الايجابي والمركز الضار تعني تحديدا السكر بكثافة دون او فوق حد 1.08 كيلو كالوري / مل .

الأهم في هذه البيانات أنها تدعم الفكرة المركزية لفرضية "شكل السكر" ، أي مبدأ أن " شكل السكر " المتناول أكثر أهمية من الناحية الأيضية من الكمية التي يتم تناولها . وتُظهر البيانات الفسيولوجية ايجابية السكر المخفف لأن امتصاصه كان بطيئًا خطيًا وثابتًا من حيث السعرات الحرارية وهذا يعني الحفاظ على توازن الجلوكوز في الدم. على العكس من ذلك فان سلبية السكر المركز تعلل بأن امتصاصه ضخم شديد الانحدار مما يضر بتوازن الجلوكوز في الدم كما يعزز بشكل غير طبيعي الإنتاج الداخلي للدهون في الدم. والواضح ان امتصاص الجلوكوز المخفف الذي يفرغ بشكل مماثل للسكروز المخفف يظل خطيًا حتى يضاعف الكمية المتناولة ولكنه يصبح أسيًا سالبا عندما تزيد كثافته بشكل معتدل من 1.08 كيلو كالوري / مل  إلى 1.33 كيلو كالوري / مل . يدعم ذلك كله ما يجادل به العلم الصحي التطوري  بأن الامتصاص الخطي للسكريات المخففة هو سمة فسيولوجية محفوظة تطوريًا تم اختيارها للبشر .

وعلى هذا فانه إذا ثبت أن فرضية " شكل السكر" صحيحة من الناحية التجريبية وأثبتت الدراسات المستقبلية أن التأثيرات الأيضية للسكر تعتمد على شكل تناوله وليس على الكمية المتناولة ، فإن آثارذلك عمليا وسريريا ستكون بعيدة المدى ويصبح الحديث عن علاقة تناول السكر المضاف بالإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية ووفياتها منتهيا . اضافة الى ذلك فان نطاق السعرات الذي يكون فيه امتصاص السكريات خطيًا تقريبًا يتداخل مع نطاق السعرات الحرارية في الفاكهة الطازجة ، وهذا يؤكد أيضًا أن الفواكه الطازجة شكلت فسيولوجيا التمثيل الغذائي للسكريات، وبالتالي فان السكريات المركزة هي أطعمة غير معروفة وراثيًا. وفي حالة الإعتراض بأن أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ قد تناولوا السكريات المركزة مثل العسل والفواكه المجففة ، فهذا يمكن دحضه بأنه قبل بداية تربية النحل كان العسل نادرًا وكان يحرسه النحل كما ان الفواكه المجففة شبه معدومة بسبب كثرة الأمطار وظل اشجار الغابات . واخيرا فان هذا التكيف السلفي ربما كان سبب فائدة النظام الغذائي الغني بالفواكه الطازجة للإنسان المعاصر.

ومثال آخر حول الفركتوز ، يوضح علم الصحة التطوري ان الفركتوز بصورته النقية ضار لأنه غير موجود في الطبيعة وغير معروف وراثيًا ولا متوفر لأسلافنا في عصور ما قبل التاريخ ولذلك كان مصدره فقط عن طريق تناول الفاكهة الطازجة حيث يكون مخفف ومختلط بشكل لا ينفصم مع الجلوكوز المخفف . وبالتالي ، فإن الامتصاص الخطي للجلوكوز المخفف  يمنع إظهار الامتصاص الأسي السالب للفركتوز الذي يتضح على عند فحصه بشكل منفصل . ايضا من المعلوم ان الفركتوز يتم افراغه بشكل مضاعف وبسرعة أكبر من السكريات الأخرى وان معدل إيصاله هو ضعف ما يظهر مع الجلوكوز وهذا ما يقرر ضرره بعكس وجوده مع المركبات الأخرى مثل المحليات والمركبات الهيدروفلورية . كما تم تأكيد ان استهلاك العسل والسكروز وشراب الذرة عالي الفركتوز ينتج تأثيرات أيضية مماثلة في الأفراد الذين يتحملون الجلوكوز والذين لا يتحملونه ، كما ان تمثيل العسل يشبه التمثيل الغذائي للسكروز والمحليات . ويوجد الفركتوز دائمًا في الفاكهة الطازجة بوفرة أكثر من السكريات الأخرى مجتمعة. ومن البديهي أن أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ الذين عاشوا على الفاكهة الطازجة لعشرات الملايين من السنين تناولوا الفركتوز بكميات يومية تتجاوز تلك التي يتناولها مستهلكي المشروبات الغازية التي تحتوي بشكل أساس على مركبات الكربون الهيدروفلورية وهذا يدحض نظرية الأثر السلبي الضار للفركتوز الغذائي . 

ومثال ثالث عن المشروبات المحلاة بالسكر (المشروبات ) فكثيرا ما ورد ربط تناولها بمرض السكري ومتلازمة التمثيل الغذائي وأمراض القلب والأوعية الدموية. وإلى جانب ربطها بهذه الأمراض تم ربط تناولها أيضًا بزيادة الوزن  والسمنة. ويُعزى ارتباط تناول المشروبات مع تلك الأمراض والظروف غير المرغوب فيها حاليًا إلى الكميات الكبيرة من السكريات سهلة الامتصاص الموجودة فيها . ومن هنا كانت الكتابات التي تشير الى أن المشروبات  ضارة لأنها  تحتوي على كميات كبيرة من الكربوهيدرات سريعة الامتصاص .

تطوريا ، مرض السكري كان غائبًا في قاطعي قصب السكر الذين كانوا يتناولون كميات كبيرة من السكر عن طريق مضغ القصب وشائع في أصحاب العمل الذين تناولوا كميات كبيرة من السكر المكرر ( اي ان السكر الموجود في القصب يكون دائمًا في صورة اقل من الحد أعلاه ( مخففة بشكل طبيعي) بينما يتم تناول السكر المكرر في أشكال مركزة او اعلى من الحد المذكور اعلاه.  كما ان الدراسات التي تثبت العلاقة السببية بين كمية السكر المتناول ومرض السكري مثلا كانت على شكل منفصل واحد محدد من السكر ( السكروز ) . إن المبدأ الصحي المترسخ الذي ينسب ضرر المشروبات إلى كمية السكر فكرة تتناقض مع حقيقة أن امتصاص السكريات المخففة فيها بطيء وثابت من السعرات الحرارية وتعارض فرضية " شكل السكر" . ايضا فان محتوى السكر في الكولا والمشروبات الغازية وثمار الفاكهة وعصائر الفاكهة والمخفوقات السائلة هو ~ 10-12 جم / 100 جم. ونظرًا لأن السكر يوفر 4 كيلو كالوري / جرام فانه من السهل فهم ان كل هذه المشروبات بعيدة عن أن تتجاوز 1.08 كيلو كالوري / مل ، وهو حد أمان السكر ، وفقًا لفرضية "صيغة او شكل السكر" اعلاه .

هذه التحليل والنتيجة التطورية تثبت أن كمية السكر الموجودة في المشروبات ليست مسؤولة عن آثارها الضارة وانه تم اثبات ان هذه الأضرار ناتجة عن عاملين تغذويين مهملين لم يمكن اكتشافها إلا بفضل النظريات التطورية وتحفيزها للتفكير النقدي وفضح التفكير الخاطئ عبر سلسلة من الأسئلة والردود التي تقدم  في النهاية "حقائق" فلسفية.

وهنا يأتي طرح التساؤل التطوري : ما الذي يميز الأيض للمشروبات عن محاليل السكر في الفاكهة ؟ الجواب هو نقص عنصرمحدد وزيادة مركب محدد آخر رغم ان أهميتهما الوقائية والعلاجية ظلت شبه مهملة بشكل عام.  وفي العموم فان النظرة التطورية تشير الى تعاضد البيئة والتمثيل والفسيولوجيا الغذائية واشتراكها في عمل منظم هدفه المحافظة على العنصر الأول وازاحة الزيادة من المركب الأخير،  وهذا هو تحديدا ما يتطابق مع النظام الغذائي المعد لتكيف الإنسان ويفسر أثر السكريات على الصحة ، كما يطرح حلا عمليا واضحا لمشكلات صحية وامراض معاصرة .

bottom of page